إلى أين نمضي؟ تقع
الإجابة عن هذا السؤال في إطار التحولات في الكتابة التي فرضتها التحولات في
التكنولوجيا نفسها، أولاً، وفي إطار التحولات في الثقافة التي فرضتها، أيضًا،
التحولات في التكنولوجيا نفسها.
دراسة محمد أسليم
تمثل
دراسة محمد أسليم "من الدفتر إلى الشاشة: تحولات الكتابة
والقراءة"، التحولات الأولى ـ التي أشرت إليها ـ إضافة إلى
التنبؤ بالمستقبل الذي ينتظر الكتابة في ضوء التحرك نحو التكنولوجيا بديلاً عن
الورق . وفيها يرى أن الشاشة ألحقت بالكتابة تغيرات جوهرية، أهمها:
(1)
تحول الكتابة إلى ورشة مفتوحة على الدوام؛ فقد فتح الحاسوب أمام الكتابة آفاقًا
عديدة، منها: إمكانية إدراج الصورة والصوت في النص المكتوب، وقابلية الاستنساخ
السريعة واللانهائية، وإشراع النص على نصوص أخرى كتابية أو سمعية أو مرئية يمكن
النفاذ إليها من النص نفسه عبر الروابط التشعبية، ما يؤشر على دخول هذه الممارسة
في قطيعة مع الكتابة المحمولة بالسند الورقي. لقد منح هذا التحول الكتابة والكتاب
ليونة غير مسبوقة، تتمثل في ثلاثة جوانب، الأول: إمكانية النشر السريع. الثاني:
إمكانية النشر المتقطع للعمل الواحد؛ فقد حررت الرقميةُ النصوصَ من شرط ضرورة الاكتمال
للوصول إلى القراء. الثالث: إمكانية
التعديل اللانهائي للنصوص المكتوبة. لقد منحت الرقميةُ الكتابةَ قابليةَ التحول
إلى شبه جسد حي مُشرع على التحول المستمر.
(2)
نهاية الكتاب التقليدي: لقد حررت الرقمية الكتابة من السند، فصار يمكن التدخل في
إعدادات صفحاته الأصلية. بهذا المعنى، تكون النصية الإلكترونية بصدد إنهاء الكتاب
باعتباره سندًا: النص الواحد المكتمل والمتكامل. وفي هذا الموضوع بالذات، يجب التمييز بين ثلاثة مستويات للتوقع، الأول:
في المدى القصير: لا يبدو في الظاهر حدوث أي تغيير ؛ فالمطابع ما زالت تشتغل بشكل
جيد، ودور النشر تعمل، ومعارض الكتب تشهد رواجًا كبيرًا. الثاني: في المدى المتوسط: يمكن أن يحتل
الكتاب الرقمي مساحة معادلة لنظيره الرقمي في حقلي التعليم والثقافة على السواء. الثالث:
في المدى البعيد: سيبدأ الكتاب الورقي دخوله الرسمي إلى المتحف، ويتحول إلى مقتنى
أثري نفيس مثلما هو الأمر، الآن، مع الألواح الطينية وأوراق البردي والمخطوطات
القديمة.
(3)
فتحت الرقمية آفاقًا جديدة للإبداع الأدبي، منها، الأول: التبادل الشعري
بين المواقع الشعرية. الثاني: الأدب التركيبي انطلاقًا من نص واحد مودع في
قاعدة للبيانات وأوامر برمجية، يقوم الحاسوب بإعادة توزيع وحدات النص بما يُفضي
إلى عدد هائل من النصوص الجديدة. الثالث: الأدب التشعبي التخييلي أو ما
يجمعه البعض تحت مفهوم "الخيال التفاعلي"؛ إذ يضع النصُّ قارئه أمام خيارات ومسارات
عديدة للقراءة بحيث يصير هو كاتب ما يقرأ، بل ويستحيل عليه قراءة النص مرتين
متطابقتين. الرابع: الأدب التوليـدي: حيث يمد القارئ بعدد لا نهائـي من
النصوص حول موضوع واحد أو عدد لا متناهٍ من التصورات حول عمل أدبي واحد. الخامس:
الأدب الفرجوي: وفيه يمتزج النص في عرض آني ومباشر، بفنون أخرى كالرقص والمسرح
والموسيقى والأوبرا، فيتخذ في كل امتزاج هيئة نص جديد. السادس: أشكال
هجينة: وتمزج بين الإمكانات العديدة التي يتيحها الحاسوب والشبكة، وبين المشاركة
والتركيب ومولدات النصوص، وتقترح عددًا لا نهائيًّا من القراءات. السادس: رواية
الواقعية الرقمية: تقترح نفسها استجابة لميلاد الإنسان الافتراضي المختلف كليًّا
عن نظيره الواقعي. السابع: الشعر الرقمي: وهو شعر يستغل الوسائط المتعددة،
ومجموعة من البرامج المعلوماتية، ولغات البرمجة، وذلك من أجل صياغة نصوص لا تمتزج
فيها اللغة بالصوت والصورة فحسب، بل تتحرر، فتتحول الشاشة إلى ما يشبه فضاء تنكتب فيه
الحروف والكلمات، وترقص، وتتحرك كأنها أسراب طائرة.
(4)
النظر إلى الشاشة بوصفها جسدًا رباعي الأبعاد: إضافة إلى المواصفات الرئيسة: العلو والعرض والصفحة، ثمة بُعد رابع غير
مرئي بمثابة متاهة أو عمق لا متناهٍ يتضمن في الحقيقة مجموع النصوص الموجودة في
الشبكة، والتي لا يشكل النص الذي نكون بصدد قراءته سوى اختيار آني من بينها، يمكن
التخلي عنه في أية لحظة واستدعاء نصوص أخرى، إمَّا عبر الروابط التشعبية من داخل
النص أو موقعه مباشرة أو بواسطة محركات البحث أو عناوين نحفظها. إضافة إلى تشظية
النصوص أو القراءة الشذرية بدل الخطية، إمَّا داخليًّا عبر الارتباطات التشعبية
لبعض كلماته بنصوص أخرى، أو خارجيًّا عبر قائمة أبواب الموقع التي تعادل الفهرست
في الكتاب الورقي، والتي يجب أن تحضر عمليًّـا في كل صفحة من صفحات الموقع.
(5)
مشاركة القارئ: ضاعفت الرقميةُ إمكانيةَ المشاركة إلى التدخل في النص نفسه: نسخه
ولصقه في أمكنة أخرى، وإجراء تغييرات في الأسلوب واللغة، وإضافة مقاطع أخرى بما
يشكل مساسًا جوهريًّا بالملكية الفكرية، هذه الملكية التي وضعتها الرقمية، الآن،
أمام تحدٍّ كبير، وكأن نبوءة ميشال فوكو Michel
Foucault بموت المؤلف تشهد، الآن، تحققها مع الرقمية. وصار بإمكان القارئ
والمؤلف أن يدخلا في تواصل مباشرة عبر البريد الإلكتروني أو حتى الدردشة الآنية. وأخيرًا، صار بإمكان القارئ التحقق من صحة الإحالات التي يوردها الباحث
في بحثه، والوقوف على كيفية تعامله مع موارده الوثائقية، ونصوصه المترجمة. لقد
قربت منا الرقمية تحقق ما يُسمى "المكتبة الكونية" التي يمكن أن تضم في
رفوفها كل كتب العالم، إضافة إلى رقمنة الميراث البشري.
في هذه الدراسة، تختلط الأمور التي أتاحتها التكنولوجيا
المعاصرة، وانعكست على الكتابة الإبداعية، بالتخوف مما سيحدث في المستقبل. يمكننا
الاتفاق مع أسليم فيما أتاحته التكنولوجيا للإنسان المعاصر، ولكن من الصعب الجزم
بأن الكتاب الورقي سيتحول، في يوم ما، إلى "مقتنى
أثري نفيس مثلما هو الأمر، الآن، مع الألواح الطينية وأوراق البردي والمخطوطات
القديمة"، أو نصل إلى تحقق مقولة "موت المؤلف" التي سبق أن طرحها رولان
بارت Roland Barthes؛ لأن الورق يشتمل على مزايا لا تتوافر إلكترونيًّـا، وهذا يعني أن
العلاقة بينهما، على الرغم من أن الظاهر يوحي بأنها علاقة تنافسية، ستبقى لكل من
يفكر بعقلانية علاقة تكاملية. أما مقولة "موت المؤلف"، فإن تغلغل
التكنولوجيا في حياتنا تقربنا من الدقة العلمية والمنطقية في الطرح، وهذان
العاملان تحديدًا يتناقضان معها تناقضًا تامًّـا.
دراسة طلال أبو غزالة
وتمثل
دراسة طلال أبو غزالة "صنع المستقبل"، التحولات
في الثقافة التي فرضتها التحولات في التكنولوجيا، وفيها يرى أن الآلات الذكية
والبرامج الذكية، سوف تعززان هذا الواقع التخيلي Virtual
reality، وأن سنوات اكتشاف وسبر أغوار الإنترنت قد انتهت، ونحن الآن على
أعتاب سنوات الإنترنت الذكي. ويذهب أبو غزالة إلى القول: "لا
يمكن الادعاء بأن ما نحن مقبلون عليه غير إنساني، فهل كنا نحن في عصر إنسان الكهف
الأول عندما لم يكن لدينا الآلات، أكثر إنسانية؟". وفي سياق
الإجابة عن سؤال طرحه: إلى أين تقودنا الثورة التكنولوجية؟ يؤكد أن التكنولوجيا لا
يمكنها أن تتقهقر إلى الخلف؛ فبمجرد وجودها، تبقى، وليس لها خيار إلا أن تتقدم
للأمام، ستقودنا إلى عالم بلا حدود: عالم الفضاء الرقمي Cyberspace الذي قد يحقق المساواة الكونية، وسنحيا في محيط معرفي لا نهائي؛ فكافة مناحي المعرفة
ستكون متاحة رقميًّـا.
التنبؤ بالمستقبل يعني تحريك الراهن لجسر الفجوة الرقمية
بين العرب والغرب، ولهذا نجده يقول: "لعلكم توافقونني على أن هذا المستقبل هو
غاية في الجمال، غير أن هذا ليس صحيحًا من جميع الجوانب؛ فإن الكوكب المعرفي الذي
نقترب منه حثيثًـا، يحمل في طياته احتمالات أن يكون كوكب القلة، كوكب الدول
المتقدمة، فما لم نتخطَّ الفجوة الرقمية، فإننا سوف نكون على أعتاب عالم قبيح،
يحمل في طياته تبعات خطيرة". ولهذا، يؤكد أبو غزالة ضرورة
التخلص من مشكلات تتصل بها، فيقول: "إن
معرفة اللغة الإنسانية الألف بائية، على بساطتها، سوف تبقى من أهم التحديات إن لم
تكن أهمها على الإطلاق التي تواجه التطور الإنساني العالمي. إن تحقيق غايات القضاء
على الأمية، وتوفير التعليم الأساسي لكافة بني البشر ما تزال تعد هي أهم تحديات
التطور والتقدم الأساسية". وفي زمن سوف تصبح فيه
"الكمبيوترات أكثر إنسانية، وسوف يصبح الإنسان فيه أكثر كمبيوترية"،
تكون "أفضل وسيلة للتنبؤ بالمستقبل هي صنعه"، وليس
انتظار مجيئه. ما أريد البناء عليه، هنا، أن تحقق التنبؤ بمستقبل زاهر للأدب
الرقمي، حتى لا يكون من نسج الخيال وحده، ينبغي أن ينشأ في سياق رقمي زاهر، بوصف
الأدب واحدًا من مناحي المعرفة، وليس جزءًا تكميليًّـا منها. عندئذ، ستبدو لنا
عملية "الحث على السير بركب الحضارة" لإنشاء الأدب الرقمي، أو استمراء
تلقيه غير َمسوغة؛ لأن كل عناصر الحياة تحركت من حوله، وتحصيل حاصل أن يتحرك الأدب
الرقمي في السياق الذي يعيش فيه.
دراسة فالنتينا إيفاشيفا
وفي
الغرب، نجد فالنتينا إيفاشيفا Valentina Ivasheva المتخصصة بالأدب الإنجليزي بجامعة موسكو في
روسيا، ترصد حركة الأدب
في الدول المتطورة صناعيًّـا على مدى العشرين سنة الماضية (قبل 1978، وهي سنة طبع
الكتاب)، في كتابها "الثورة التكنولوجية والأدب"، فتركز على تحولين في
تزايد مطرد، الأول: الوثائقية Documentalism، وحول تفسير هذا، تقول:
"كثيرًا ما قيل أن الكتاب الغربيين سئموا من الذاتية، وكثير منهم مقتنعون بأن
العالم لا يمكن فهمه أو التعبير عنه من خلال الفن، وأن الخيال الفني قد أصابه
الجدب، وأن أكثر الكتاب موهبة انجذبوا نحو توخي المصداقية Authenticity في كتاباتهم. ولقد كان هناك،
أيضًا، إيحاء بأن الإنسان قد فقد تكامله في المجتمع الرأسمالي، وأن ما هو أكثر من
ذلك أنه صار غريبًا؛ نتيجة دوره الذي صار أشبه بدور الإنسان الآلي في الصناعة
الميكنية التي بلغت أرقى درجات الميكنة، والتي صار الفرد بمثابة ترس لا قيمة له
بالمرة. ومع ذلك، فبالرغم من أن تفسيرات هذا النمط يمكن انطباقها على الأدب في
ألمانيا الغربية وفي الولايات المتحدة، بل وربما في فرنسا وإيطاليا، إلا أنها لا
توائم كل وضع". والثاني: الخيال العلمي Sciennce Fiction، وترد انتشاره إلى أسباب، أهمها:
أن الثورة التكنولوجية في منتصف القرن العشرين فتحت الآفاق عليها، وأن كتاب هذا
النمط من الأدب كثيرًا ما يكونون علماء متخصصين في الفلك أو الكيمياء أو غيرهما،
وتوضح الأعمال الأكثر عمقًا الميل نحو التفكير الفلسفي والتعميمات Generalisation التي تُظهر
التناقضات الوجودية والاجتماعية والأيديولوجية. وتصل إيفاشيفا، في الفصل الخامس
(في براثن المرض العقلي)، إلى أن أثر الميكنة والروتين في الحياة شكَّلا الأمراض
العصبية Neuroses،
والأمراض العقلية Psychoses؛
فالإنسان يشعر بصورة مؤكدة بأن هذه الاضطرابات السيكولوجية هي أساسًا نتيجة انعدام
شخصية الإنسان في عالم مقنن لا يبالي، عالم "الشيء" الذي ظفر وانتصر،
وهو في الغرب عالم العداوة بين الإنسان والتكنولوجيا التي صارت بالفعل شيئًا في
ذاته، وانتصارها يأتي من قبيل التباعد الروحي داخل الإنسان بالنظر للماضي،
فتقول: "إننا ندرك كيف أن هذا التباعد يؤدي إلى تحطيم كامل الشخصية، وهذا هو
في الغالب موضوع الكتابة في الغرب، تناوله الروائيون والشعراء والصحفيون والنقاد
والسيكولوجيون والفلاسفة، وهم بعض من بنوا الآلات السبرناطيقية، يدعون في هدوء: أن
الفرد وسبرناطيقيته الضعفCD قابلين تمامًا للتغيير والتبديل
فيما بينهما Interchangeable،
وهذا الادعاء في ذاته كافٍ لأن يصل بالفرد فعلاً إلى حافة الجنون".
وتشير إيفاشيفا إلى أن هناك معالجة جديدة في الأدب
الغربي، تسعى إلى الكشف عن نفوس الناس، أو عالم الإنسان الداخلي. وتتخذ من خاصية
الإيجاز Laconic quality في التصوير السيكولوجي أسلوبًا
لها، وهذا الأدب، كما ترى، يواكب سرعة الحياة، كما يواكب متطلبات القارئ، ولذلك فقد
خلَّص المبدعُ نفسه من المحسنات الوجدانية ومن أي لون من الصور العاطفية(52).
وختمت كتابها بالقول: "إن إمكانية عقدين من الزمان متبقيين على بداية القرن
الحادي والعشرين، إمكانية ضخمة، واليوم يصعب التكهن بأية تغييرات وأية اكتشافات
ستحدث خلالها. في هذه الآونة، يصعب بالمثل التكهن بما ستنجره هذه الاكتشافات في
مجالي الأدب والفن".
لم تكن إيفاشيفا، في دراستها، تتحدث عن الأدب الرقمي، بل
كانت تتحدث عن التحولات في الكتابة، والتي تخطت فيها العلاقة بين الإنسان
والتكنولوجيا إلى تحول "الشيء" وهو المكنة إلى جزء من هذا الإنسان،
بصورة انسحقت فيها ذاتيته، وأسهمت في تغذية هذا الشعور التناقضات الخارجية التي
يشهدها. وانعكس ذلك على الأدب؛ فاتجهت الكتابة، أكثر ما اتجهت، إلى
"الوثائقية" و"الخيال العلمي" حيث يتحرر فيها التعبير من
العاطفة والاستغراق في الوصف. وحتى "الأدب السيكولوجي"، تحرر من
المحسنات الوجدانية والصور العاطفية. هذه الفترة ـ التي تتحدث عنها إيفاشيفا ـ وما يسبقها، أيضًا، وُجدت فيها قصائد بصرية Visual Literature، ابتداءً من الشاعر الإنجليزي جورج
هيربرت George Herbert (1593 ـ 1633) الذي
كتب قصيدة " Easter Wings"
حيث تمثل الكتابـة زوجًا من الأجنحة، وتُصنف ضمن "الشعر المادي"
Concrete
Poem، ومرورًا بالشاعر جون هولاند John Hollander الذي اشتهرت قصيدته "Swan and Shadow" المؤرخة في عام 1969 حيث
تمثل الكتابة بجعة تنعكس في البحيرة.. وانتهاء بما لا يُحصى منها، إضافة إلى
التفاعلية التي نشطت مع اطراد العلاقة القوية بالتكنولوجيا، وتحولها إلى جزء من
الإنسان، على الرغم من هذا النمط من الأدب أكثر ما يحقق أهداف الكتاب.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الدراسة كشفت لنا حال الكتابة
على الورق في عصر تتغلغل فيه التكنولوجيا. ولا شك في أن الخصائص التي تطرقت إليها
المؤلفة جزء من خصائص الكتابة التفاعلية التفاعلية، ومنها: الإيجاز المواكب لإيقاع
الحياة السريعة، ما يؤكد أن حال الكتابة على الورق، هو حال الكتابة عبر الوسيط
الإلكتروني؛ فالتجربة الإبداعية هي التي تفرض الوسيط الناقل لها، بينما خصائص الكتابة
تبقى حاملة لسمات العصر الذي تعيش فيه. ومن منظور آخر، أتاحت لنا تفسير ظهور أنماط
من القصائد التفاعلية ذات نزعة عقلية، ولنأخذ الشاعر روبرت كاندل Robert
Kendall
الذي أنتج شعرًا رقميًّـا، وشعرًا تفاعليًّـا يستخدم فيه الوسائط
المتعددة حيث كانت قصيدته الأولى "A life set for two" عام 1996؛ فالوثائقية التي
قللت من شأن العاطفة، والخيال العلمي الذي نقل الأدب إلى عوالم أخرى، والتجليات
الفلسفية، والتصوير السيكولوجي.. وفق ما لاحظت إيفاشيفا، تؤكد أن "الشعر
الرقمي" ـ الذي يمكن تقديمه على الورق وفق توجُّه دراستنا ـ صار على درجة
عالية من الغموض، وهو ما أشار إليه كاندل في تحذيره لمتلقي شعره الرقمي،
أما قصائده "التفاعلية" ـ التي لا يمكن تقديمها على الورق ـ فقد اتخذت
أنماطًا مختلفة، ولكن أكثر ما يعنيني في هذا السياق قصيدة اللعبة التي أشرتُ إليها
سابقًا، والتي تظهر فيها تلك النزعة العقلية، ومن هذه الأنماط: الشطرنج،
الأبواب، إطلاق الرصاص، البازلت. إن الوضع الذي وصل إليه الشعر، يساعد على تلقي
هذا الشعر، دون أن تحدث فجوة بين العمل التفاعلي والمتلقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتطفات من كتاب: د. إبراهيم أحمد ملحم، الرقمية وتحولات الكتابة، عالم الكتب الحديث، الأردن 2015.