السبت، 11 أغسطس 2012

معنى "الأدب التفاعلي" في الشرق والغرب


إن اضطراب المصطلحات الدالة على الأدب التفاعلي في الغرب يؤكد صعوبة استقرار المعنى حول هذا النمط في تقديم النص الأدبي. وما يلاحظ هو تغييب القنوات الأخرى، كالمقال مثلاً؛ لأن فكرة النص التشعبي في المقال مألوفة للقارئ، وهي أكثر صلة بالناقد، وفكرة التفاعل مع المقال شائعة في الصحف اليومية حيث يُطلب من القارئ كتابة تعليق على ما قرأ؛ لذلك كان الشكل الصادم هو تعالق التقنية بالنص الإبداعي البحت كالشعر والرواية.

اضطراب المعنى في الشرق

هذا الاضطراب في الغرب انتقل إلينا، وعلى الرغم من الجهود المتميزة التي بذلتها الناقدة الرائدة في هذا المجال: فاطمة البريكي، فإن الفروق الدقيقة بين المصطلحات: الأدب الرقمي، الأدب التكنولوجي، الأدب الإلكتروني.. ليست ذات شأن؛ فمصطلح "الأدب التفاعلي" ينبغي أن يبتلع هذه المصطلحات جميعها، ما عدا تلك التي قُدمت على الإنترنت، وفي الوقت نفسه، نستطيع تقديمها على الورق دون أن يحدث أي خلل فيها؛ ليصبح مدى تحقق التفاعل هو المعيار الذي نحتكم إليه في نقد العمل. وهنا، ينبغي، أيضًا، أن يحل مصطلح "التناص" المتعارف عليه في النقد الأدبي  Intertextuality مكان مصطلح "النص التشعبي" Hypertext، ليغدو ما وظفه الشاعر عبر التشعب من نصوص مكتوبة، أو مقطوعات صوتية، أو مؤثرات ضوئية.. غيرَ منفصلٍ عن بنية العمل. أما وصف الجنس الأدبي بالترابط أو التشعُّب، كأن نستخدم "القصة المترابطة"  Hyperfiction مصطلحًـا وحيدًا ليدل على القصة، في مقابل إسقــاط استخـــدام "القصــة التفاعليـــة"  Interactive fiction، فهو مجانب للدقة؛ لأن الترابط أو التشعُّب جزء من القصة التفاعلية، وليس بالضرورة أن تكون مقتصرة عليه، أو بتعبير ثان: هو التناص فيها.

التناص التفاعلي

من المؤكد أن العمل، بهذه الصورة، سيفرض على الناقد التمييز بين نمطين من التناص، الأول: التناص النصي، وهو ما نستطيع الكشف عنه في النص الذي كتبه المؤلف. والثاني: التناص التقني، وهو ما نستطيع تتبعه عبر الترابط مع الوسائط الأخرى التي قد تكون أغنية بالفيديو أو الأوديو، أو قد تكون مقطعًا من قصيدة مكتوبة أو مُلقاة بصوت الشاعر.. في كلا النمطين، نحن أمام تناص أعطى عمقًا وثراءً غير مسبوق للمعنى.

هوية الأدب التفاعلي

يضع هذا النمط من الأدب هويةَ العمل على المحك؛ فليس كل عمل تفاعلي ينتمي للأدب. وما يفرض الأدبية هو البناء بالكلمة عالمًا من الشعر أو النثر، ولا قيمة، هنا، للتقنية التي يتضمنها العمل إنْ لم يكن مبنيًّـا على الكلمة. أما تحديد القناة التي تمر عبرها الكلمة المبنية، فما زال واضحًا جنسويًّـا؛ إذ يمكن، على سبيل المثال، تمييز الشعر من الرواية على الرغم من أن هذا النمط من الأدب ألغى الفواصل التي تحجز الأجناس الأدبية عن بعضها، وحاول أن يستقطب فيه منتج العمل كل ما يستطيع أن يجعل العمل خصبًـا.
من الصعب القول: إن هذا الاستقطاب أدى إلى خروج العمل عن كونه منتميًـا لجنس الرواية، مثلاً، فالتداخل بين الأجناس في العمل الإبداعي يعمل لصالح خصوبته، بل إنه يحفظ قابليته للبقاء في المستقبل أطول فترة ممكنة؛ فالشكل الروائي، كما يقول الناقد موريـس بلانشـو  Maurice Blanchot، "ربما لا يعيش إلا على تغيراته وانحرافاته"، وهذه التغيرات أو الانحرافات، ينبغي أن تترك ملامح في العمل المنتَج تميزه جنسويًّـا، وهي الملامح الجوهرية التي تخص الرواية، ومن أجل ذلك، يقول الناقد تودوروف Todorov مؤكدًا ما ذهب إليه بلانشو، وفي الوقت نفسه، مؤكدًا ضرورة بقاء تلك الملامح الجوهرية: "يكاد يكون من اللازم حدوث خرق  Transgression جزئي للجنس، وإلا فسيفقد الأثر الأدبي الحد الأدنى من أصالته الضرورية (..) ولا ينال هذا الخرق لقواعد الجنس بشكل عميق من النسق الأدبي". فما يُبقي الرواية التفاعلية تنتمي إلى جنس الرواية هو وجود النص المكتوب الذي تتوافر فيه الملامح الجوهرية أولاً، ووجود الوسائط التقنية المتلاحمة مع النص، بصورة تعمل فيها كل مكونات البنية الروائية معًـا، فتغدو الروابط أو التشعبات ليست سوى تناص مع النص ثانيًـا، وتُشرك المتلقي في التفاعل معها ثالثًـا.
قد تكون مساحة التقنية الموظفة عبر الروابط أو التشعبات في النص، أو التقديم له مطوَّلة، أو تستغرق زمنًا أكثر بكثير مما يُتاح له، ولكن هذا لا يخرجه من الانتماء إلى جنس الرواية. وقد يكون النص خاليًا من المساحة المخصصة للتفاعل من خلال الكتابة، وهذا لا يُسقط عنه كلمة "التفاعلية"؛ لأن منتج العمل يكون قد اختار وسيلة أخرى للتفاعل، مثل: ترك المتلقي يختار سير الأحداث، أو يختار النهاية التي يريدها أن تكون ملبية لرغباته، وإن كانت هذه التفاعلية تبلغ أوجها من خلال استغلال كل الأساليب المتوافرة من أجل تفعيل دور المتلقي في العمل.

البحث عن الجذور

هناك ضرورة ماسة للبحث عن جذور لهذا "الأدب التفاعلي"، نتتبع فيه توق الإنسان للتفاعل مع الآخرين عبر الكتابة، والرسم، والصوت.. منذ حركة الإنسان البدائي للتعبير عن نفسه إلى العصر الحديث، وربط ثقافتنا في الشرق بالتأثر والتأثير في الغرب، من زاوية العيش المشترك على الأرض، وأن التأثر ليس شرطًا أن يكون نقلاً عن الآخر بالحرفية المألوفة لنا.
إضافة إلى ذلك، فإن تقبُّل المتلقي للأدب التفاعلي، والتعامل معه بجدية، وتأسيس نقد تفاعلي مبني على العمل نفسه.. لن يكون بالخطاب المتعسف الذي يربط فيه بعض المتحمسين لهذا الأدب بين التخلف والجهل، من جهة أولى، وعدم الخوض في كتابته أو نقده أو تلقيه، من جهة ثانية؛ ففي الغرب الذي نشأ فيه هذا الأدب، ليست هناك موجة عاتية للاتجاه إليه: المصطلح ما زال ضبابيًّـا، والتخوف من المستقبل ما زال قائمًا، والاتهامات الموجَّهة إليه في الاقتراب من اللعبة ما زالت تطفو على السطح. والأكثــــــر أهميـــة، أن الإحصائيـــــة التــــي أجرتهــــــا كاريــــن جوتفرايـــد   Karen Gottfried مديـــرة الأبحــــاث في شركـــــة Ipsos Public Affairs في 2012 لصالح "رويترز"، تُظهر أن أكثر من نصف مستخدمي الإنترنت في العالم، يستخدمون الشبكة العنكبوتية للبحث عن معلومات عن وسائل التسلية، والهوايات، والموسيقى، والأفلام. وأعتقد أن هذه الإحصائية تشير، بصورة ما، إلى أن الفرصة سانحة للأدباء العرب لتقديم الأدب بطريقة مختلفة، تُستثمر فيه الوسائط التقنية الفعَّالة كالموسيقى والفيديو، إضافة إلى الأصل الذي يعطي للعمل مسمى "الأدب"، وهو الكلمة، من جهة ثالثة.

نظرة مستقبلية

وهذا يفرض على جامعاتنا، أن تؤسس لهذا الأدب ونقده، ليس من منطلق فرضه، ولكن من منطلق أن المتعة يمكن أن تتمازج مع المعرفة، فتبني جيلاً من المتذوقين للإبداع، وجيلاً من المبدعين، وجيلاً النقاد يكون قادرًا على الولوج فيه بنجاح بحيث لا نترك الزمن يتحرك أمامنا نحو المستقبل دون أن نفعل شيئًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتطفات من كتاب: د. إبراهيم أحمد ملحم، الأدب والتقنية: مدخل إلى النقد التفاعلي، عالم الكتب الحديث، الأردن 2013.